الذاكرة والتاريخ الشفوي

جاءت الثورة السورية ردًا على أربعين عامًا من الظلم البنيوي والوحشي الذي طال كافة جوانب الحياة السورية ولم يسلم منه أي فرد أو جماعة. لقد اتسم تاريخ سوريا الحديث بعقود من الاضطهاد والمجازر التي لم تروى بعد. من الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الذي جرد آلاف الأكراد السوريين من جنسيتهم إلى مجزرة حماة عام 1982، وغيرها من الفظائع التي لا حصر لها، عانى السوريون/ـات من عنف ممنهج تم إسكاتهم عنه أو محوه من الروايات الرسمية. منذ عام 2011، كشف النظام السوري و العديد من الفصائل المسلحة، عن مستويات من العنف لا تُصدق بحق المدنيين السوريين. نؤمن أنه لا يمكن لأي انتقال حقيقي نحو السلام والاستقرار أن يتحقق دون معالجة آثار الصدمة الجماعية الناتجة عن الحرب، وكذلك عقود من العنف السلطوي التي سبقتها. إن بناء مستقبل يقوم على الازدهار، يتطلب مجتمعًا متماسكًا وفاعلًا، وهذا بدوره يتطلب مواجهة الماضي. ومع تعدد وتباين التجارب المعاشة للسوريين/ات، فإن الاعتراف بجميع هذه التجارب وحفظها وإدراجها في السرديات الوطنية هو السبيل الوحيد لبناء هوية وطنية جامعة و التعامل مع الماضي القاسي.


لطالما ركزت السرديات التاريخية المهيمنة والتي صيغت لخدمة موازين القوى القائمة على الأحداث السياسية والعسكرية، متجاهلة الحياة اليومية و التجارب المعاشة وغالبًا ما هيمن الرجال على هذه السرديات مما أدى إلى تهميش الحركات القاعدية، بما في ذلك النضالات النسوية ودور النساء في التحولات الاجتماعية والسياسية. لقد عززت المقاربات التقليدية للكتابة التاريخية هذه الفجوات، تاركةً المشهد الاجتماعي والسياسي والثقافي المتطور في سوريا غير ممثل بشكل كافٍ. نلتزم في بدائلبإنتاج سرديات تاريخية سورية تُكتب بأقلام السوريين/ات، وتتمحور حول تجاربهم/ن غير المروية والمتنوعة، وتُسهم في الشفاء( التعافي) .واستعادة الفاعلية وبناء أسس العدالة التحويلية

في هذا الإطار، وانطلاقًا من قيمنا ومنهجيتنا، أطلقنا مشروع التاريخ الشفوي للنساء السوريات عام 2018. ويستند المشروع إلى فلسفتنا بأن إنتاج المعرفة وحفظ الذاكرة يجب أن تكون محلية الملكية. قمنا باجراء مقابلات مع نساء سوريات نازحات في تركيا وأُجرينا أكثر من 250 مقابلة، وسُجّل أكثر من 300 ساعة بالصوت والصورة مع نساء سوريات، تنوعت خلفياتهن وتجاربهن وثق المشروع تجاربهنمن العيش تحت الحصار والاعتقال، إلى المشاركة في الثورة والنشاط السياسي وتُعد هذه الشهادات مصدرًا ثميناً لفهم سوريا قبل وبعد الثورة.

انطلاقاً من ادراكنا أن شبكات الإقصاء في سوريا متصلة بتلك التي في المنطقة، ومن منطلق إيماننا بالتعلّم والنضال الجماعي، اجتمعنا في عام 2022 مع ثلاث منظمات نسوية في المنطقة الناطقة بالعربية، الرواة من فلسطين و ورشة المعارف من لبنان و ، ومؤسسة المرأة والذاكرة من مصر، لنؤسس معاً ما عرف لاحقا بسرد ” شبكة التاريخ الشفوي النسوي في البلدان الناطقة بالعربية”. تهدف “سرد” إلى تغيير موازين القوى وتعزيز العدالة في المنطقة من خلال استعادة السرديات التاريخية عبر تدخلات التاريخ الشفوي النسوي، التي تُواجه التفاوتات التقاطعية من خلال إبراز أصوات المهمشين/ات وكشف التجارب المنسية. وتلتزم الشبكة في جوهرها بإشراك مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة في توثيق الروايات التاريخية للمنطقة.

 

@